دراسات قانونية

بدائل الدعوى العمومية (بحث قانوني)

بدائل الدعوى العمومية: قراءة في التشريع المغربي والمقارن

سميرة خـزرون
طالبة باحثة بماستر الوسائل البديلة لفض النزاعات
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية فـاس

مقدمة :

لقد رافق تطور الحياة تطور الجريمة كما ونوعا ، ما أدى الى كثرة الملفات وتراكمها على المحاكم.

وبناء على ذلك فقد زاد الاهتمام الدولي بالبحث عن بدائل للدعوى العمومية مايعني اعطاء دور أكبر لأطراف الدعوى العمومية من المتهم ــ المدعى عليه ــ والمتضرر ــ المدعي ـــ والنيابة العامة كممثلة للحق العام للمجتمع في انهاء الخصومة الجنائية لمواجهة ازدياد وتنامي الظاهرة الاجرامية في العصر الحالي أملا في زيادة فعالية العدالة الجنائية في حل النزاعات المعروضة أمام القضاء .

وتكمن أهمية الوسائل البديلة بصفة عامة في الامتيازات التي توفرها لانهاء النزاع كبديل أنسب عن القضاء ، اذ تمتاز بقلة شكلياتها وغلبة الجانب الرضائي عليها، وتتمثل أبرز هذه الاليات في الوساطة والصلح والتسوية الودية مع اختلاف نطاق استعمالها والتكريس القانوني لها من دولة الى أخرى .
كما تجدر الاشارة الى أن اعمال هذه الطرق ليس بدعة في النظام المغربي بل هو مترسخ في حضارتنا ، ويتبين ذلك من خلال دراسة ماتزخر به الأعراف العتيقة والتي كانت ممارسة قبل تغلغل التشريع الاسلامي في كل ربوع المغرب ، وظلت سائدة بعد تطبيق التشريع لدى القبائل التي كانت سارية فيها كثيرا من مقتضياتها التي لا تخالف أحكامه، بل إن التشريع الاسلامي هو ذاته يدعو لاعمال العرف اذا لم يكن مخالفا للمسائل المقطوع بها في الشريعة.[1]

وللوقوف أكثر على المقصود ببدائل الدعوى العمومية والاطار التشريعي المنظم لها بين التشريع المغربي و التشريعات المقارنة نرى أن نتناول الموضوع وفقا للاتي:

المبحث الأول: تنظيم الصلح الجنائي بين التشريع المغربي والمقارن
المبحث الثاني: الوساطة والتسوية الودية كبدائل للدعوى العمومية في التشريعات المقارنة

المبحث الأول: تنظيم الصلح الجنائي بين التشريع المغربي والمقارن

نتناول بداية التأطير القانوني للصلح الجنائي في التشريعات المقارنة(مطلب أول)، ثم تكريس المشرع الجنائي المغربي للصلح(مطلب ثان).

المطلب الأول: التأطير القانوني للصلح الجنائي في التشريعات المقارنة

نتطرق لتعريف الصلح في المادة الجنائية كما اوردته بعض التشريعات العربية (الفقرة الثانية) بعد ان نقف عند المقصود بالصلح الزجري في التشريع اللاتيني ـــ الفرنسي كنموذج، بما أن التشريعات الانجلوساكسونية ذهبت في أغلبها الى تحريم الصلح في المسائل الجنائية( التشريع الامريكي والانجليزي).

الفقرة الأولى: الصلح في التشريع الجنائي الفرنسي

لم يعط المشرع الجنائي الفرنسي[2] تعريفا محددا للصلح إلا أنه خصه بتعريف على مستوى القانون المدني.

اذ يعرف الصلح في القانون المدني الفرنسي بأنه:
عقد ينهي به طرفان نزاعا نشا او يتوقيان به نزاعا من شانه ان ينشا وذلك بالتنازل من طرف كل منهما عن التشدد في جانب من مطلبه فيتم التراضي بينهما وينعقد به الاتفاق[3].
كما ان الصلح في قانون المسطرة الجنائية الفرنسي وطبقا للفقرة الثانية من المادة 41 منه فيكون له مجال في الحالة التي يقترح خلالها ممثل الحق العام الفرنسي قبل اثارة الدعوى العمومية صلحا جنائيا اما بصفة جنائية او بواسطة شخص مؤهل على الجاني المرتكب للجريمة والثابتة في حقه بواسطة وسائل الاثبات القانونية شريطة ان يتعلق الفعل بالحالات المنصوص عليها في الفصول التي عددها المشرع بنفس المادة وهي تقارب الى حد نظيراتها المسطرة في القانون المغربي[4].

الفقرة الثانية : الصلح في اطار بعض التشريعات العربية – التشريع التونسي نموذجا

نورد في هذا الصدد موقف المشرع التونسي من الصلح في المادة الجنائية، اذ نسجل انه لم يعطه هو الاخر تعريفا محددا بل اكتفى بذكره كسبب من اسباب انقضاء الدعوى العمومية في الفصل 4 من المادة الجزائية ثم اقره في قوانين جزائية خاصة ، كالمجلة الديوانية التي نصت بالفصل 220 على انه يرخص، و كمجلة الغابات التي تجيز في الفصل 134 للادارة العامة للغابات ان تصالح على الجنح و المخالفات التي ترتكب بالغابات، كما نجد للصلح مجالا في بعض الجرائم الاقتصادية او جرائم الصيد البحري او جرائم الطرقات[5].
كان هذا فيما يخص الصلح كالية لحل النزاعات في المادة الجنائية وبعد ان توقفنا عند التعريف المعطى للصلح كالية لانهاء النزاع في بعض التشريعات المقارنة يبقى أن تساءل عن كيفية تنظيم المشرع المغربي للصلح كبديل للدعوى العمومية؟

المطلب الثاني: تكريس المشرع المغربي للصلح الجنائي

نتعرض لمفهوم الصلح كما حددته المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية وتحديد المرجعية القانونية لهذا الاجراء كفقرة ثانية، بعد التوقف مع التعريف الذي أعطاه المشرع المغربي للصلح كآلية بديلة لفض النزاعات في ضوء قانون الالتزامات والعقود كفقرة أولى.

الفقرة الأولى: الصلح في ضوء قانون الالتزامات والعقود[6]

سبق وأن عرفنا الصلح على أنه اتفاق من خلاله يضع الأطراف حدا للنزاع والذي على ضوئه يتنازل كل طرف على حق من حقوقه، والصلح حينها يتم بين الاطراف فيصبح ملزما لهم وقد نظم قانون الالتزامات والعقود الصلح في الفصل 1098 اذ عرفه على أنه عقد بمقتضاه يحسم الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان قيامه وذلك بتنازل كل منهما للاخر عن جزء مما يدعيه لنفسه أو باعطائه مالا معينا أو حقا.

الفقرة الثانية: الصلح في التشريع الجنائي المغربي

نتطرق للصلح الجنائي كما أوردته المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية(أولا)، ثم نقف عند أبرز مستجدات المسودة بخصوص الصلح كبديل للدعوى العمومية (ثانيا).

أولا: قراءة في المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية

لاشك أن مبدأ الصلح أو المصالحة يعد من التقاليد الراسخة في التراث الديني والثقافي المغربي، اذ كان رب القبيلة أو رب الأسرة يلعب دور الوسيط في حل النزاعات العائلية والمالية والفلاحية التي تنشأ بين أفراد الاسرة أو القبيلة.
واسوة بالعديد من التشريعات المقارنة[7] عمد المشرع المغربي في قانون المسطرة الجنائية الى تبني مبدأ الصلح بالمادة 41 من قانون المسطرة الجنائية كآلية حديثة وحضارية لاستبدال العقوبة السالبة للحرية ولفض النزاع قبل تحريك الدعوى العمومية، ومع أن القوانين الجنائية كلها من النظام العام ولا يملك الاطراف صلاحية تحديد نطاقها نظرا للاضطراب الاجتماعي الذي قد تسببه ، فقد سمح المشرع في جرائم معينة ونظرا للطابع الاجتماعي والاسري الذي يهيمن عليها بابرام مصالحة بين الاطراف ينجم عنها وضع حد للمتابعة[8].

ومن النصوص التي نصت صراحة على ذلك والتي تسمح بالمصالحة المؤدية الى انقضاء المتابعة الجنائية:
ـــ المادة 74 من ظهير 17ــ10ــ1917 المتعلق بالمحافظة على الغابات ، وهذه المادة تجيز لادارة المياه والغابات اجراء صلح مع المتهم المرتكب للجنح والمخالفات الواقعة على المياه والغابات.
ــ المادة 89 من ظهير 2ــ11ــ1932 المنظم لاحتكار الدخان بالمغرب ، هذه المادة تجيز لادارة شركة التبغ اجراء صلح قبل صدور الحكم أوبعده مع مرتكب المخالفات المتعلقة بالتبغ.

ــ المادة 273ــ 277 من المدونة الجمركية[9] ، هذه المواد تسمح لادارة الجمارك باجراء صلح وفق ماهو منصوص عليه في المادة 276 من هذا القانون.
كذلك فان أهم الجرائم الواردة في القانون الجنائي المغربي والتي يترتب عن ابرام المصالحة بشأنها وضع حد للمتابعة ، نجد قضايا اهمال الاسرة[10] ، الخيانة الزوجية [11]، والسرقة بين الاقارب[12], فهذه الجرائم لا تحرك المتابعة بشأنها إلا بناء على شكوى من المجني عليه ويؤدي التنازل عن الشكاية الى انقضاء المتابعة وسقوط الدعوى العمومية[13].

ثانيا: أبرز مستجدات مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية حول الصلح

تتجلى المستجدات التي جاء بها م,ق,م,ج ,م[14] فيما يخص الصلح في مجموعة من المكتسبات الهامة نلخصها في الاتي:

ـ انه أصبح بامكان النيابة العامة اقتراح الصلح على الأطراف وهو ماليس متاحا لها في ظل القانون الحالي إلا في حالات محددة[15].

ـ أصبح بامكان وكيل الملك تعيين وسيط أو أن يطلب من الأطراف تعيينه (وفق ارادتهم) للقيام بالصلح.
ـ امكانية استعانة وكيل الملك بالمساعدين الاجتماعيين بالمحاكم الموجودين بخلايا التكفل بالنساء والأطفال من أجل اقامة الصلح.
ــ استغناء المشروع عن موافقة القاضي على الصلح.

المبحث الثاني: الوساطة والتسوية الودية كبدائل للدعوى العمومية في التشريعات المقارنة

بما أن المشرع المغربي اقتصر على تناول الصلح كآلية بديلة للدعوى العمومية فان هناك من التشريعات المقارنة تلك التي تطرقت لانواع أخرى من الاليات البديلة لحل النزاعات الجنائية كالتسوية الودية والوساطة. وللتعرف أكثر على المقصود بهاتين الوسيلتين سنتوقف عند مفهوم الوساطة الجنائية والتسوية الودية في اطار بعض الأنظمة اللاتينية والانجلوساكسونية (المطلب الأول)،قبل التطرق التعريفات الحديثة لبعض التشريعات العربية للوساطة الجنائية(المطلب الثاني).

المطلب الاول: مفهوم الوساطة الجنائية والتسوية الودية بين الانظمة القانونية اللاتينية والانجلوساكسونية

تعرف الوساطة عموما بأنها وسيلة بديلة عن القضاء لحل النزاعات يقوم بها شخص يسمى الوسيط يعمل على تسهيل الحوار بين الاطراف المتنازعة في سبيل التوصل الى حل للنزاع القائم بينهم[16].
وبما أن الوساطة الجنائية[17] كآلية قد تطورت وانتشرت بمختلف دول العالم ، سنتوقف عند مفهومها في بعض الانظمة اللاتينية كفرنسا مع مقارنتها بمفهوم التسوية الودية( الفقرة الاولى)، ثم نمر للمقصود بالوساطة الجنائية في التشريعات الانجلوساكسونية (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : مفهوم الوساطة[18] الجنائية والتسوية الودية في التشريع اللاتيني ــ فرنسا نموذجا

اعتمد المشرع الفرنسي نظام التسوية الجنائية la composition penale بالقانون رقم 55 ــ 515 الصادر في 23 يونيو سنة 1999 بشأن تدعيم فعالية الاجراءات الجنائية ثم عدله بالقانون رقم 204 ـ 2004 الصادر في 9 مارس سنة 2004، وتمثل بديلا جديدا من بدائل الدعوى العمومية ، اذ تتيح لنائب الجمهورية أن يقترح على الشخص الطبيعي البالغ الذي يعترف بارتكابه واحدة أو أكثر من الجنح المعاقب عليها كعقوبة أصلية بعقوبة الغرامة أو عقوبة الحبس الذي لاتزيد مدته على خمس سنوات وكذلك عند الاقتضاء واحدة أو أكثر من المخالفات بهذه الجنح[19].
وهكذا يتمكن الوسيط في نهاية النزاع من تحفيز طرفي النزاع للتوصل الى تسوية ودية بينهم[20].

الفقرة الثانية: الوساطة الجنائية في التشريعات الانجلوساكسونية : نماذج التشريع الأمريكي والتشريع البريطاني

لقد بدأ تطبيق نظام الوساطة الجنائية في بريطانيا منذ الثمانينات عبر عدة محاولات قضائية في مناطق مختلفة من انجلترا، بالرغم من عدم وجود تشريعات أو مؤسسات تعنى بذلك، اذ ان الاهتمام الحكومي بالوساطة الجنائية ظهر مابين عامي 1985 و 1987 لكنه لم يأخذ المنحى التشريعي إلا عام 1998.[21]

أما في الولايات المتحدة فقد تم العمل بنظام الوساطة الجنائية في معظم الولايات[22].
وتعد ممارسة الوساطة التي ظهرت في و.م.أ الأساس في ظهور تجارب الوساطة الجنائية التي انتشرت ممارستها فيما بعد في كثير من الأنظمة سواء أكان ذلك في اطار الاجراءات القضائية أو خارج نطاقها.
ويعد نظام الوساطة الجنائية أكثر تطورا في ولاية فلوريدا ، حيث أن طلب الوساطة في الدعوى قد يكون بناء على طلب هيأة الدفاع للطرفين وفي أية مرحلة من مراحل الدعوى أما الوسطاء الذين يتم انتخابهم فيجب أن يكونوا قد حصلوا على تدريب خاص وشهادة بقدرتهم على القيام بهذه المهمة صادرة عن محكمة فلوريدا العليا.
أما في أوكلاند، فيقوم نظام التسوية الجنائية على موافقة الخصوم حيث أن القاضي يعطيهم مهلة 14 يوما ليقرروا فيما اذا أرادوا اللجوء للوساطة أو لا[23].

المطلب الثاني:الاطار المنظم للوساطة الجنائية في بعض التشريعات العربية

نتطرق بداية للوساطة الجنائية في التشريع التونسي (الفقرة الاولى)، لنتعرف موقف المشرع المصري ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : الوساطة الجنائية في القانون التونسي

يعد القانون التونسي نموذج التشريعات العربية التي أقرت نظام الوساطة الجنائية ضمن القانون الاجرائي الجنائي وقانون حماية الطفل ، وذلك تأثرا بالمشرع البلجيكي [24].
وققد أقر المشرع التونسي اجراء الصلح عن طريق الوساطة الجنائية حسب القانون رقم 94 لسنة 2002 باضافة بند تاسع على الكتاب الرابع من مجلة الاجراءات الجزائية[25]، وقد أشار المشرع التونسي الى أن الهدف من اقرار الوساطة الجنائية هو ضمان تعويض الاضرار الناجمة عن الجريمة واعادة تأهيل وادماج الجناة في المجتمع وتدعيم الشعور لديهم بالمسؤولية.

الفقرة الثانية: الوساطة الجنائية في التشريع المصري

لقد ذهب رأي بعض الفقه المصري[26] إلى تعريف الوساطة بأنها إجراء يتوصل بمقتضاه شخص محايد (الوسيط) إلى التقريب بين طرفي الخصومة الجنائية,بغية السماح لهما بالتفاوض على الاثار الناتجة عن الجريمة املا في إنهاء النزاع الواقع بينهما.
بينما يعرفها رأي آخر بأنها :”تقتضي قيام شخص ثالث بالتوفيق بين مصالح أطراف النزاع بغية الوصول إلى حل و دي ينهي به نزاعا يواجه أشخاصا يرتبطون عادة بعلاقات دائمة كأفراد الاسرة الواحدة أو الجيران أو زملاء العمل.
في حين ذهب رأي آخر الى أن :”الوساطة بمثابة مجالس صلح لأنها تستهدف الوصول الى اتفاق أو مصالحة بالطرق الودية [27].”

وهكذا نكون قد حاولنا من خلال طرحنا هذا استجلاء الاطار القانوني المنظم لبدائل الدعوى العمومية بين مختلف التشريعات المرصودة مع استحضار اقرار المشرع المغربي للصلح الجنائي كآلية بديلة عن الدعوى العمومية.
ونشيد هنا بالمستجدات التي تناولتها مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية فيما يخص الصلح مايشكل تأكيدا على ارادة المشرع الجنائي المغربي في الرقي بالعدالة التصالحية وتعزيز ثقافة اعتماد الآليات البديلة لفض النزاع.

 

(محاماه نت)

إغلاق